جدلية الديني والمدني لن
تتوقف حتى يُقرر المجتمع العربي الوجه الأصلح له في هذه المرحلة التي اختلط
فيها الحابل الديني بالنابل المدني.
ونقع في مجموعة من الأخطاء عندما نقارن أنفسنا بالغرب في هذا التوجه
الليبرالي ويسميه البعض العلماني، ويتحسس البعض من هذا الطرح خوفاً على
مصيره الديني في واقع حياة المجتمعات العربية التي تتميز بوجود أكثر من دين
مساهم في حراكه العام.
فالغرب بعد صراع مرير مع الكنيسة حسم أمره بتحييد الدين وجعله
أمراً فردياً خاصاً لا يثير استياء أحد من حوله إلى درجة أنك إذا سألت أحد
العامة عن مسألة دينية كالصيام، يرد عليك بالاعتذار عن الإجابة لأنه ليس
رجل دين، وقد سرى هذا النوع من التعايش مع الدين لدى أفراد المجتمعات
الغربية التي تتجنب إقحام نفسها في شأن اختص فيه القساوسة والرهبان. بشكل
مجدْول في أيام السبت أو الأحد.
بالمقابل بقي المجتمع العربي بشكل عام متديناً ومحافظاً في مكنونه الداخلي
وإن بدت عليه معالم التنصل من المسوحات الدينية المباشرة، إلا أن الصبغة
المباشرة لهذا المجتمع المتناقض هي صبغة الله أو فطرة الله التي فطر الناس
عليها.
وعلاوة على ذلك، فإنه لم ينشأ صراع ديني كما كان الشأن في حكومات الكنائس
التي حكمت مجتمعاتها باسم الرب. وهو ما لم يحصل في المجتمع العربي وإن كان
البعض قد حكم باسم الخلافة وغيرها من المسميات التي لها دلالات دينية
معروفة.
وقد مرت قرون على العالم العربي، ظل الدين فيه كالعمود الفقري للإنسان الذي
يصعب عليه التماسك في حركته بدونه، وهناك منطقة في هذا العمود غير قابلة
للمس مهما كانت الضرورات ملحة وهي الحبل الشوكي، ومع مرور ذلك الزمن الطويل
بدأت موجات التطرف والإرهاب والتشدد والتعصب تهاجم هذا الحبل الشوكي في
المجتمع العربي الذي لا يمكن التبرؤ من عنصر الدين كأحد مكوناته الرئيسية
منذ الأزمنة الغابرة وصولا إلى العصر الجاهلي الذي كان المجتمع فيه غارقاً
في عبادة الأصنام وغيرها من مكونات الطبيعة كالتمر مثلا.
فالتحدي الحقيقي اليوم بعد أن خرج من تحت عباءة الدين جماعات وحركات
ومنظمات دينية تتثبت بكل فكرة تعيش في الزوايا الحادة للتطرف بمقدار الصفر
أحياناً، بحيث لا يجد الآخر له درجة ما يمكن التحاور حولها.
فإذا كان هذا هو وضع الدين بشكل عام، فكيف إذن يمكننا فك الاشتباك أو
الارتباط بين ما هو ديني وما هو مدني؟ هنا يطرح المشروع نفسه على ساحة
البحث وهو الأهم في قضيتنا كلها، بما أن العمل المؤسسي لم يأخذ مكانه
الطبيعي في المجتمع العربي، فإعادة المؤسسة جزء مهم من إنجاح فصل الفصام أو
الصدام بين ما هو ديني أو مدني، بما أن التطبيقات الغربية في ذات الموضوع
يصعب نقلها بحذافيرها إلى أروقة المجتمعات العربية التي تختلف فيما بينها
في طريقة التعامل مع هذه القضية التي شبهناها بالتعرض للحبل الشوكي الذي قد
يشل الفرد إن لم يودِ بحياته.
فإذا أردنا أن نؤرخ للموضوع باستقلال الدول العربية ووضع الدساتير
والقوانين واللوائح الشارحة لها، لتنفيذ ذلك في كل مؤسسات المجتمع، فإن أبا
القانون حاكم، فإذا نصت المادة الأولى في أي دستور على أن دين الدولة
الإسلام وهو المصدر الأول للتشريع، أو أي دين آخر من الأديان السماوية
الأخرى، فهو قيد واضح بأن يكون المجتمع دينياً وليس مدنياً، والثاني هو
المطلب الملح في هذا الوقت الذي كشر فيه التطرف عن أنيابه.
فالغرب في هذه الجزئية بالذات أراح نفسه وأزاح الصداع من رأسه من باب
"الدول العلمانية"، وهو نفس الباب الذي أفشل الإجماع على دستور الاتحاد
الأوروبي الذي أريد به أن يكون دينياً فسقط عند أول اختبار في إيرلندا
واستبدل بالمعاهدات بين دول الاتحاد مع الاستمرار في توسعه.
فالمشروع المراد إنتاجه في المجتمع العربي اختراع جديد يوائم بين الديني
والمدني، فالسياسة المطلوبة هنا في التوأمة، أما في الغرب فقد اختار
العلمنة منذ البداية بلا رجعة.
*نقلاً عن صحيفة "الاتحاد" الاماراتية